بعد ليلة طويلة ، قضيتها مع أصحاب السوء ، مع المثقلين بالسيئات
، المبعدين عن الطاعات ، قضيتها معهم باللهو والسهر والغناء ، وديدن رتيب ممل مضحك
مبكي ، يشعر العاقل في خضمه أنه لا قيمة له ، ولا حاجة إليه ..
كل ليلة على هذا المنوال ، فلما تدحرجت عقارب الساعة ، واستقرت
على ضفاف الهزيع الأخير من الليل ، ركبت سيارتي وعدت إلى المنزل ، فكانت الساعة
وقتئذ تشير إلى الثالثة بعد منتصف الليل ، فتحت باب المنزل ودخلت ، فإذا بجدتي - يرحمها
الله - قد افترشت سجادتها ، في ناحية من
البيت ، ومضت في صلوات كثيرة وطويلة ، لم أحص لها عدا ..
إلا أنني أذكر أنها كانت تصلي وهي جالسة ، فقد تعبت من الوقوف ،
فآثرت الوقوف بين يدي الرءوف الرحمن ، فاستمرت في صلاتها قاعدة ، فاستوقفتني لحظات
الرحمة والتوفيق من الغفور الرحيم لأقف أنظر إليها وهي تصلي ، غير عابئة بالنائمين
، ولا مكترثة بالداخلين والخارجين ، فأحسست من تلك اللحظة ، بشيء غريب ينتابني ..
وكأن شيئا ما سيحدث في حياتي ، ثم دخلت غرفتي ، حاولت النوم ،
فلم يكن لي منه نصيب ، فأصبحت صورة جدتي في مخيلتي ، وأمام عيني ، ومن حولي ، وفي
كل مكان من غرفتي ..
يا الله ، ماذا أصابني ، ثم عدت أرسل الفكر والتأمل في نفسي
وحياتي ، وشبابي وصلابة عودي ، وقوتي وفتوتي ، كيف أبدد هذه النعمة في معصيةٍ
أهبها ، وجدتي التي جلست على حافة القبر ، تتهجد وهي جالسة ، تعبت من الوقوف ، لا
شك بأنها تحب أن تصلي وهي واقفة ، فما الذي منعها ؟
إنه الكبر والهرم ، إذاً لا شك إنها تتمنى أنها في شبابي ، وأنا
أضيِّع هذا الشباب ، ثم من يضمن لي أن أعيش حتى أبلغ ما بلغت من العمر ، فسرحت في
تأملات ، خالطها صوت المؤذن وهو ينادي لصلاة الفجر ( الصلاة خير من النوم ) ..
قلت أين النوم ، الأمر أعظم من النوم ، القضية مفترق طريق ، ولا
بد أن أتخذ قراراً سريعاً ، فسألت الله عز وجل أن يعينني ، فإذا بي أشم رائحة
التوبة ، وأذوق طعمها ، وإذا بقلبي يخضع لوابل الرحمة فتتفجر منه أنهار الأيمان (
وإنَّ من الحجارة لما يتفجَّر منه الأنهار ) ، فشعرت كأنني أولد من جديد .
ثم خرجت إلى المسجد ، وكنت أول الداخلين من المصلين بعد المؤذن
، فصليت سنة الفجر ، وتناولت المصحف ، وشرعت أتلوا آياته ، وأتأملها ، فإذا بها
تخاطبني ، وتواسيني ، وتزيل عني هموم الذنوب والخطايا ، بسعة رحمة رب البرايا ..
فما زلت كذلك ، فإذا بيد تمتد نحوي لتصافحني ، فمددت يدي ،
ونظرت إلى صاحبها ، فإذا به والدي رحمه الله رحمةً واسعة، وكان كل شيء يتوقعه مني
، إلا أن يجدني في المسجد..
فنظر إليَّ نظرةً لا تغيب عني أبداً ، نظرة لا أستطيع وصفها ،
بها كل الأحاسيس والمشاعر مختلطة ، احتضَنتْها عبرةٌ جاشت في فؤاده رحمه الله ،
فارتمت على آثارها المدامع فوق خدَّيه ، وكأن لسان حاله يقول :
سبحان من فتق القلوب أنارها *** بمحاسن التقوى جلى أبصارها
ما كنت أحسب أن مثلك يهتدي
*** أم أن يمـيز ليلـها ونهـارها
فلطالما قد جئت نحوك ناصحا ***
أن تعرف الأصحاب كي تختارها
أن تتركن الملهيات جميعها
*** أعـوادهـا أقواسـها أوتارهـا
فنظرت نحوي عاتبا مستكثراً *** أنـي
أريك طريقـها ومسارهـا
ولدي أحبك صائما ومصليا ً
*** ومن البرية قد صحبت خيارهـا
ولدي أحبك زاد حبك بعدما
*** تتلوا من السور الكرام قصارها
من محاضرة : ( سبب هدايتي
جدتي ) للداعية عبد الله السالم .
b