كانت تسير مسرعة الخطا بل
تكاد تقفز قفزاً وهي تتفقد ما أنتجته جميع الأقسام ، وكانت تبدي ملاحظاتها الدقيقة
حول ماتراه … ولم يطمئن لها بال إلا بعد أن تابعت دقيق الأمور قبل كبيرها …وبعدها
ذهبت السيدة " أمينة " إلى غرفة الإدارة ، وأخذت ورقة وقلماً وبدأت تدون
ملاحظاتها الإعلانات ممتازة ، المطويات واضحة الهدف بليغة العبارات جميلة الوريقات
.
الكتيبات أنيقة الأغلفة
مسلسلة الأفكار .
الملفات الصحفية دقيقة
مدققة .
أما الشريط المسموع فهو شريط
فني الإخراج رائع الإعداد .
بقي شيء واحد تنتظره بفارغ
الصبر .
إنه شريط الفيديو الذي
سيعرض أثناء الحفل المعد اليوم .
قامت من مقعدها وقد رسمت
ابتسامة عريضة على شفتيها .. خرجت من غرفتها وتأملت اللوحات بينابيع من الفخر
والاعتزاز والزهو ، تنبعث من بين ضلوعها لتصارع ذكرياتها الأليمة والتي هجمت عليها
بغتة .
إنها مهما حققت من نجاح
حاضر لم تنجح يوماً في الهروب من الماضي الأليم
" سامي " ذلك الجرح النازف مدى الحياة ، كان أنانياً متعجرفاً يريدها له وحده ، كان يرفض أن تخرج من بيتها لتعانق نجاح الحياة وتقدم رسالة لأمتها ومجتمعها .. لقد أصم أذنيها بمحاضراته حول دور الأم في تربية أبنائها … وكانت تطرب أذنيه حول دور المرأة الفعال الإيجابي في المجتمع ، إنها لايمكن أن تنسى لسعات حواره الأخير معها !!
" سامي " ذلك الجرح النازف مدى الحياة ، كان أنانياً متعجرفاً يريدها له وحده ، كان يرفض أن تخرج من بيتها لتعانق نجاح الحياة وتقدم رسالة لأمتها ومجتمعها .. لقد أصم أذنيها بمحاضراته حول دور الأم في تربية أبنائها … وكانت تطرب أذنيه حول دور المرأة الفعال الإيجابي في المجتمع ، إنها لايمكن أن تنسى لسعات حواره الأخير معها !!
أرجو أن
تفهميني جيدأ أنا لا أعارض عمل المرأة إلا إذا تعارض مع مسؤوليتها الأولى . مسؤولية
الكنس والطبخ والغسيل والكي و …
لا ، إن دورها أسمى وأنبل من ذلك ، وإن كانت هذه
الأمور تشكل جزءاً من مسؤوليتها ، فقالت ساخرة :
بدأنا بالفلسفة … تفضل أفهمني دوري ياعزيزي ..
فأجابها بجدية بالغة :
إنني أتساءل : كيف يمكن
لإنسان أن ينشأ قوي الشخصية قويم الأخلاق ثابت المبادئ وهو لايعرف أما واحدة بل
طابوراً من الأمهات ؟
أجابته بانفعال : ماذا تقصد
؟؟!
خذي مثلاً ولدنا سامر ..
بالأمس كان ينادي ماما "زيزي" ، ومن قبل كان يرتمي في أحضان ماما
"إيوه" ، واليوم ينام بجوار ماما " آن " وغداً لا أدري !!
فأين ماما "أمينة" ؟! فعلقت ببرود وشرود :
أنت تعرف جيداً أن ماما " أمينة " رئيسة
جمعية نسائية خيرية وهذا يتطلب منها الكثير .. فأجابها :
وماذا ستكسبين وستكسب
الإنسانية جمعاء من هذه الجمعية إذا خرج أطفال جميع المنتسبات مثل ولدنا سامر ؟ ..
فقاطعته :
سامر.. طفل وسيم ، سليم
البنية ، متين الجسد ، ماشاء الله ..لا ينقصه شيء .
رفع حاجبيه وقال بأسى :
هذه هي حقيقة المأساة ،
التي تغمضين عينيك عنها !! فقالت بانفعال :
عن أية مأساة تتحدث ، إنك
واهم بلا أدنى شك .
ألم تلاحظي بعد وتتابعي
مقولاته ، سامر ضعيف التعبير لا يعرف لغته ، فقاطعته ساخرة :
لا أنتظر منه أن يصبح
" سيبويه " زمانه !!
فرد بسخرية ظاهرة وحزن
مكتوم :
إن لم يصبح
"سيبويه" ، فليكن " جاهلية " .. إنه لايعرف لغته ، لغة القرآن
، فكيف سينهل العلم أيتها المثقفة ؟! فأجابت ببرود :
لا عليك .. عندما يكبر
سيفهم . فأكمل قائلا :
أضيفي إلى ذلك تردده في
اتخاد القرارات وشخصيته المهزوزة المهترئة و… فقاطعته قائلة :
وهل أصدرت أحكامك النهائية
على طفل لم يبلغ الخامسة إلا حديثاً .. أين منطقك العلمي ياسامي ؟
بل هو عين المنطق ، فقد أجمع المربون على أن خمس
السنوات الأولى هي أخطر فترة تربوية ، وخلالها تتشكل أسس الشخصية المستقبلية .
هذا الكلام هراء … وهو قمة
الفلسفة .. يبدو أن آراءانا لم تلتق بعد .فعلق سامي :
أكاد أجزم أنها لم ولن
تلتقي يوماً .
وخرج من غرفته آسفاً متألماً
، بينما اتكأت هي على أريكتها ، وبدأت تداعب خصلات شعر سامر المنسدلة ، وأبحر كل
منهما في قارب أحلامه الخاص .
الهوة بينهما كانت تتسع مع
الأيام ، والفجوات أصبحت دهاليز مظلمة ، كل منهما ينظر إلى الحياة بطريقة مختلفة
إن لم تكن متناقضة تماماً مع نظرة الآخر .
قضت ليلتها تلك مكتئبة ،
شعرت أنها لا تستطيع متابعة كلام سامر واهتماماته ، فطلبت من الخادمة أن تأخذه
عندها ..
وكان القدر بانتظار سامر ،
فقد انقلب شاي الصباح الساخن على صفحة وجهه الوسيم ، وترك آثاراً لن تمحوها السنون
.
استشاط سامي غضباً وأسفاً
وألماً و اغتنم تلك المناسبة ليعلن المفاصلة .
فقال بانفعال - بعد أن عاد
من زيارة الطبيب - رضينا بالتشوهات التربوية فهل نرضى بالتشوهات الجسمية ؟ فقالت
أمينة بهدوء مصطنع :
إنه قدر الله . فرد عليها
بانفعال :
أو تعلقين كل إهمال يصدر
منك على مشكاة الأقدار ، هذه سذاجة وبلاهة أيضاً . فردت عليه :
لا ، لقد تجاوزت حدك ، أنا
لا أرضى بهذا ! فأجابها:
وأنا لايمكن أن تستمر حياتي
على هذه الصورة المقيته ، فقالت :
إذن فلـ … ولم تكمل كلمتها ،
فأكمل هو بعد أن تنفس الصعداء .
نعم … إذن فلننفصل !!
سمعت تلك الكلمة فوقعت
كالصاعقة الحارقة على قلبها … أحست بصراع مرير ، إنها منذ زمن وهي تبحث عن حريتها
… ولحظة حصلت عليها شعرت أنها قشة هائمة في فضاء واسع. اضطربت خطواتها وجفت دموعها
… ماتت كلماتها على شفتيها بل لقد رأت كل ما حولها ميتاً لا حياة فيه ، كادت ترجو سامي
أن يتراجع ، خطر ببالها أن تقبل يديه ، لكن هل تفرش بساط تذللها له ؟ إن كبرياءها
يأبى ذلك .
وخرجت من غرفة سامي لتلملم
أشياءها وتعيش أيامها القادمة لنفسها .
وهاهي الآن سعيدة بحياتها
ونجاحها ومشاركاتها الاجتماعية الفعالة ، كان سامي يريدها نسياً منسياً ، والآن
يشار إليها بالبنان ، إنما الذي يزعجها هو ثورة الأشواق العارمة تجاه ولدها الحبيب
سامر .
قاومت مشاعرها وخرجت لتشاهد
مع الجمهور الشريط المرئي حول مدمني المخدرات .
ابتدأ الشريط بالتحدث عن
أهم المشاكل الاجتماعية التي تسبب انهيار الشباب والفتيات فقد تبين من الدراسة أن
تشرد الأطفال بسبب التفكك الأسري ، هو من أهم الأسباب .
واستطرد المتحدث قائلاً :
ومما يؤسف له أن المخدرات بدأت تنتشر بين البراعم اليافعة … وإني لأكذب نفسي وأنا
أخاطب واحداً من الضحايا … وإذ بصورة إحدى الضحايا تظهر .
امتقع وجه السيدة " أمينة"
ودارت الدنيا بها ، أحست أنها ارتدت أثواب الذل والمهانة ، وأنها سيشار لها
بالبنان .. ليس اليوم فقط بل طوال أيام العمر … لم تستطع أن تنظر إلى وجوه
الحاضرين ، ربما اعتقدت جازمة أن كل عين رأت الصغير المدمن قد تعرفت عليه … بالضبط
كما عرفته هي … نهضت وهي ترتجف ، أحست أن رأسها الشامخ لا يكاد يرتفع عن الأرض
كثيراً … يبدو أنه يجب أن يلتصق بها … فقد قدمت بفكرها وجهدها وعرقها الكثير
لوطنها وللإنسانية ، أجل لقد قدمت ماهو أهم من جميع أوسمة الشرف التي حصلت عليها
في عدة مناسبات … لقد دارت بها الدُّنْيا ولم تنتبه إلى وسام الشرف الأخير الذي
حصلت عليه من المسؤولين … فقد تقدمت نحوها إحداهن لتسلمها الوسام ، قفالت وهي في
شبه ذهول :
أنا لا أستحق هذا … قاطعتها
المشرفة قائلة :
هذا تواضع منك تشكرين عليه
، لكنك حققت إنجازات مذهلة أيتها السيدة الأمينة !!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق